شبهة: إنكار الفوائد الصحية للصيام
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المغرضين وجود أي فوائد صحية للصيام الإسلامي، بدعوى أن الصيام لو كان له فوائد صحية كثيرة ـ كما يقول المسلمون ـ فلماذا لم يُشرع طوال العام، وبدعوى أن الصيام الإسلامي يمنع الإنسان عن شرب الماء لساعات طويلة، وهذا في ظنهم يمثِّل خطرًا بالغًا على صحة الإنسان.
كما يَدَّعُون أن الصيام الإسلامي يؤدي إلى الكسل وقلة الإنتاج، لما له من أضرار صحية كثيرة.
وجوه إبطال الشبهة:
- لقد أثبت العلم حديثًا ـ بما لا يدع مجالًا للشك ـ أن للصيام الإسلامي فوائد صحية عديدة، منها: التخلُّص من السموم، والشحوم، وتجديد الخلايا، وتقوية جهاز المناعة، كما أثبتت البحوث والتجارب الطبية دوره في علاج كثير من الأمراض، منها: الأمراض الناتجة عن السمنة، كتصلب الشرايين، وضغط الدم، والسكر، وبعض أمراض القلب، وكذا مرض التهاب المفاصل المزمن، وقرحة المعدة، هذا بالإضافة إلى أثر الصيام الإسلامي على الصحة النفسية، ومعالجة الأمراض الناتجة عن الاضطراب النفسي، وقد شهد بتلك الفوائد الصحية علماء الغرب.
- إن الصيام الإسلامي أمر تعبديٌّ شُرِعَ من أجل تحقيق التقوى، لا من أجل أن له فوائد صحية كثيرة، ومن ثم فلا يمكن للصيام أن يكون طوال العام على الدوام؛ لأن ذلك يتنافى مع وسطية الإسلام التي تقتضي ألا يكون هناك إفراط ولا تفريط، كما يتنافى مع ما قرَّره العلم الحديث من أن كون الشيء مفيدًا لا يعني المبالغة في استخدامه، وهذا أمر مشاهد ومعلوم؛ فكما يقال: إذا زاد الشيء على حدِّه انقلب إلى ضده.
- إن الامتناع عن شرب الماء في الصيام الإسلامي يفيد الجسم بفوائد عديدة، ولا يضرُّه كما يُظن، من تلك الفوائد: تحسين كفاءة خلايا الدم، حماية الجسم من قرحة المعدة، تحسين الذاكرة، تحسين آليات عمل الكلى، كما أن السوائل التي يفقدها الجسم أثناء الصيام هي السوائل التي في خارج الخلايا، أما السوائل التي بداخلها فإن الجسم يحتفظ بها، وإن فقد شيئًا منها فإنه يُعَوَّض من خلال عمليات وتحوُّلات كيميائية، جعلها الله سبحانه وتعالى في جسم الإنسان.
- كيف يَدَّعُون أن الصيام الإسلامي يسبب الكسل والخمول، ويقلِّل حركة الإنتاج، وقد وقعت أحداث تاريخية كبرى في نهار رمضان، منها غزوة بدر الكبرى، وحرب أكتوبر؟! إن شعور الإعياء والضعف الذي قد يصيب بعض الصائمين أثناء الصيام هو بسبب خروجهم عن آداب الصيام، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وليس بسبب الصيام الإسلامي الصحيح، الذي أثبتت الأبحاث والتجارب العلمية أنه يزيد النشاط والحيوية في جسم الصائم بدرجة قد تفوق غير الصائم.
- لا شك أن الصيام الإسلامي سهل ميسور، لا مشقة فيه ولا ضرر؛ لقوله سبحانه وتعالى:)يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ((البقرة/١٨٥)، وهذا واضح من حثِّ النبي صلى الله عليه وسلم على التسحُّر، وأمره بتعجيل الفطر وتأخير السحور؛ كي تتقلص مدة الصيام اليومية إلى الوقت المسموح به، وهذا ما أكَّدته الدراسات العلمية في مجال وظائف الأعضاء.
التفصيل:
أولا. الفوائد الصحية للصيام الإسلامي:
قرَّر القرآن الكريم أن للصوم منافع وفوائد متحقِّقة لمن يصوم من الأصحاء وغيرهم من أهل الرخص، ما لم يكن الضرر مُحققًا؛ لعموم اللفظ في قوله سبحانه وتعالى:)وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون(184)((البقرة)([1]).
وهذه الفوائد كثيرة، منها الروحية، والبدنية؛ وذلك كما يأتي:
لم يعرف الأطباء فوائد الصوم الطبية إلا في القرن العشرين بعد أن تقدَّمت البحوث العلمية الغذائية، وتوافرت الأجهزة الدقيقة التي كشفت الكثير من أسرار الجسم البشري، مشتملة على أسرار الغذاء في الجسم وتفاعلاته، من هذه الفوائد:
- التخلص من السموم:
يتعرض الجسم البشري لكثير من المواد الضارة، والسموم التي قد تتراكم في أنسجته، وأغلب هذه المواد تأتي للجسم عبر الغذاء الذي يتناوله بكثرة، هذا بالإضافة إلى السموم التي نستنشقها مع الهواء، من عوادم السيارات، وغازات المصانع، وسموم الأدوية التي يتناولها الناس بغير ضابط… إلى غير ذلك من سموم الكائنات الدقيقة، التي تقطن في أجسامنا بأعداد تفوق الوصف والحصر، وأخيرًا مخلَّفات الاحتراق الداخلي للخلايا.
كل هذه السموم جعل الله تعالى للجسم منها فرجًا ومخرجًا؛ فيقوم الكبد ـ وهو الجهاز الرئيسي المنظف للجسم من السموم ـ بإبطال مفعول كثير من هذه المواد السامة؛ بل قد يحوِّلها إلى مواد نافعة، مثل: اليوريا، والكرياتين، وأملاح الأمونيا، غير أن للكبد جهدًا وطاقة محدودين، وقد يعتري خلاياه بعض الخلل لأسباب مرضية، أو لأسباب طبيعية كتقدُّم السن؛ فيترسَّب جزء من هذه المواد السامة في أنسجة الجسم، خصوصًا في المخازن الدهنية.وفي الصيام تتحوَّل كميات هائلة من الشحوم المختزنة في الجسم إلى الكبد حتى تؤكسَد، ويُنتفع بها، وتستخرج منها السموم الذائبة فيها، وتزال سميتها ويتخلص منها مع نفايات الجسد.
وبما أن عمليات الهدم في الكبد أثناء الصيام تغلب عمليات البناء في التمثيل الغذائي؛ فإن فرصة طرح السموم المتراكمة في خلايا الجسم تزداد خلال هذه الفترة، ويزداد أيضًا نشاط الخلايا الكبدية في إزالة سُمِّية كثير من المواد السامة، وهكذا يُعدُّ الصيام شهادة صحية لأجهزة الجسم بالسلامة.
يقول الدكتور "ماك فادون" ـ وهو من الأطباء العالميين، الذين اهتموا بدراسة الصوم وأثره ـ : إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم، وإن لم يكن مريضًا؛ لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم، فتجعله كالمريض وتثقله؛ فيقلُّ نشاطه، فإذا صام الإنسان تخلَّص من أعباء هذه السموم، وشعر بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل.
- التخلص من الشحوم:
ترتبط السمنة بالإفراط في تناول الطعام وخصوصًا الأطعمة الغنية بالدهون، هذا بالإضافة إلى أن وسائل الحياة المريحة والسمنة مشكلة واسعة الانتشار، وقد وُجد أن السمنة تقترن بزيادة خطر الأمراض القلبية الوعائية، مثل: قصور القلب، والسكتة القلبية، ومرض الشريان التاجي، ومرض انسداد الشرايين المحيطة بالقلب.
والصيام الإسلامي يعدُّ النموذج الفريد للوقاية والعلاج من السمنة في آن واحد؛ حيث يمثِّل الأكل المعتدل والامتناع عنه، مع النشاط والحركة عاملين مؤثِّرين في تخفيف الوزن، وذلك بزيادة معدل استقلاب الغذاء بعد وجبة السحور وتحريك الدهن المختزن لأكسدته في إنتاج الطاقة اللازمة بعد منتصف النهار.
وبهذا يُـحْدِثُ الصيام الإسلامي المتمثِّل في الحفاظ على وجبة السحور والاعتدال في الأكل والحركة والنشاط أثناء الصيام ـ نظامًا غذائيًّا ناجحًا في علاج السمنة.
- تجدُّد الخلايا:
اقتضت حكمة الله تعالى أن يحدث التغيير والتبديل في كل شيء وفق سنة ثابتة؛ فقد اقتضت هذه السُّنة في جسم الإنسان أن يتبدل محتوى خلاياه على الأقل كل ستة أشهر، وبعض الأنسجة تتجدد خلاياها في فترات قصيرة تُعَدُّ بالأيام والأسابيع فتهرم؛ تلك الخلايا ثم تموت، وتنشأ أخرى جديدة تواصل مسيرة الحياة حتى يأتي أَجَل الإنسان.
إن عدد الخلايا التي تموت في الثانية الواحدة في جسم الإنسان يصل إلى 125مليون خلية، وأكثر من هذا العدد يتجدد يوميًّا في سنِّ النمو، ومثله في وسط العمر، ثم يقلُّ عدد الخلايا المتجددة مع تقدُّم السنِّ.
وبما أن الأحماض الأمينية هي التي تشكِّل البنية الأساسية في الخلايا؛ ففي الصيام الإسلامي تتجمَّع هذه الأحماض القادمة من الغذاء مع الأحماض الناتجة من عملية
الهدم في مجمع الأحماض الأمينية في الكبد، ويحدث فيها تحوُّل داخلي واسع النطاق؛ ليتم إعادة توزيعها بعد عملية التحوُّل الداخلي ودمجها في جزيئات أخرى، ويصنع منها كل
أنواع البروتينات الخلوية، وبروتينات البلازما والهرمونات، وغير ذلك من المركبات الحيوية.
وهذا يتيح لَبِنَاتٍ جديدة للخلايا، ويرفع كفاءتها الوظيفية؛ الأمر الذي يعود على الجسم البشري بالصحة والنماء والعافية.
- مقاومة الشيخوخة:
كشفت مجلة الطبيعة (Nature)البريطانية عن دراسة علمية تفيد أن الصيام يؤدي إلى تنشيط الجينات المسئولة عن إفراز هرمونات تساعد الخلايا في مواجهة زحف الشيخوخة على الإنسان، وتزيد من حيوية الجسم ونشاطه، وأكدت نتائج هذه الدراسة أن عملية التمثيل الغذائي وهضم الطعام تُنْتِجُ موادَّ سامة تتلف الخلايا، وأن الإقلال من كمية الطعام والإكثار من الحركة لحرق الطاقة يُحسِّن من الوضع الصحي ويوقف عملية الهدم، وبالتالي تزيد من إمكانية رفع متوسط العمر، وأوضحت الدراسة أن الصيام قد يؤدي إلى رد فعل يجعل الخلايا تقاوم الموت، وتعيش مدة أطول. وأضافت الدراسة أن مفتاح الصحة يتمثل في الحَدِّ من الطعام في نظام غذائي مدى الحياة بقدر الإمكان؛ الأمر الذي يؤثر إيجابيًّا، ويساعد على مقاومة الشيخوخة.
- تحسين أداء الجهاز المناعي:
يقوِّي الصيام جهاز المناعة، فيقي الجسم من أمراض كثيرة؛ حيث يتحسَّن المؤشر الوظيفي للخلايا الليمفاوية عشرة أضعاف، كما تزداد نسبة الخلايا المسئولة عن المناعة النوعية زيادة كبيرة، كما ترتفع بعض أنواع الأجسام المضادة في الجسم، وتنشط الردود المناعية؛ نتيجة لزيادة البروتين الدهني منخفض الكثافة.
6.يقي الصيام الجسم من تكوُّن حصيات الكلى؛ إذ يرفع معدل الصوديوم في الدم فيمنع تبلور أملاح الكالسيوم، كما أن زيادة مادة البولينا في البول تساعد في عدم ترسُّب أملاح البول، التي تكوِّن حصيات المسالك البولية.
7.يخفِّف الصيام الغريزة الجنسية ويهدئها، خصوصًا عند الشباب، وبذلك يقي الجسم من الاضطرابات النفسية والجسمية، والانحرافات السلوكية، والإكثار من الصوم مع الاعتدال في الطعام والشراب وبذل الجهد المعتاد يجني الشاب فائدته في تثبيط غرائزه المتأججة بيسر؛ لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»([2])، ومعنى وجاء: وقاية، وهذا لاشك إعجاز علمي. كما أن الصيام يُحسِّن خصوبة المرأة والرجل على السواء.
- الصيام علاج لكثير من الأمراض:
إن الصوم وسيلة فعَّالة للشفاء من الأمراض الحادة، خصوصًا المصحوبة بقيء أو إسهال أو ارتفاع في درجة الحرارة؛ حيث يتيح راحة لخلايا الجسم ويعطيها الفرصة لكي تتخلَّص من سمومها وتقوَى مناعتها([3]).
من هذه الأمراض التي أثبتت الأبحاث العلمية الطبية إمكانية معالجتها الآتي:
- ثبتت فعالية الصوم بوصفه علاجًا لحالات الالتهابات المفصلية الحادة، وهو ما سجَّله أستاذ الكيمياء بجامعة مونتريال بكندا، البروفيسور "وود" الذي عالج مرضاه بنجاح عبر عدة أيام من الصوم (4 ـ 8) أيام، وذكر أن الصوم في حالات الروماتيزم يحول دون وصول التدهور إلى القلب.
- أظهرت الأبحاث أهمية الصوم بوصفه علاجًا لشتى أنواع السُّعال خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أيام، في حين يحتاج الرَّبو الشعبي إلى مدة أطول، وتظهر نتيجة الصوم بوضوح عندما يستطيع مريض الربو أن يخلد إلى النوم في هدوء.
- اتَّضحت فعاليته في علاج أمراض الجهاز الهضمي، كالحُمَّى التيفودية، والكوليرا، فضلًا عن التهابات القولون والإسهال.
- ثبت أن الصوم يفيد في معالجة طنين الأذن من خلال ما يُسَمَّى بـ "عملية الاطِّراح"؛ حيث تُنَظف قناة إستاكيوس أثناء الصوم.
- أثبتت التجارب إمكانية علاج الوسواس القهري والهوس وبعض أنواع الفصام بما يُسمَّى "العلاج بالجوع" أو الصيام الطبي؛ فقد تمكَّن الدكتور "يوري نيكالف" بمستشفى معهد موسكو للطب النفسي من علاج عشرة آلاف مريض عقلي ونفسي بنظام العلاج بالصوم، وكانت النتيجة تحسُّن 65% منهم، وقد استغرقت الطريقة شهرًا كاملًا، وكان الإفطار محتويًا على القليل من اللبن، بالإضافة إلى الكثير من الخضروات والفواكه([4]).
كما يعالج الصيام عددًا كبيرًا من الأمراض الخطيرة، أهمها:
- الأمراض الناتجة عن السمنة، كمرض تصلُّب الشرايين، وضغط الدم، وبعض أمراض القلب.
- يعالج بعض أمراض الدورة الدموية الطرفية، مثل: مرض الرينود، ومرض برجر.
- يعالج كثيرًا من الأمراض التي تنشأ من تراكم السموم، والفضلات الضارة في الجسم.
- يعالج الصيام المتواصل مرض التهاب المفاصل المزمن (الروماتويد).
- يعدِّل الصيام الإسلامي ارتفاع حُموضة المعدة، وبالتالي يساعد في التئام قرحة المعدة مع العلاج المناسب.
- لا يسبب الصيام أي خطر على المرضعات، أو الحوامل، ولا يغيِّر من التركيب الكيميائي، أو التبدُّلات الاستقلابية في الجسم لديهن([5]).
هذا؛ وقد ثبت علميًّا أيضًا أن الصيام الإسلامي يفيد في علاج مرضى السكر؛ حيث تبيَّن أن معدل السكر في الدم ينخفض أثناء الصيام، وقد تمخَّضت الأبحاث العلمية في أمريكا عن إثبات قدرة الصوم على الوقاية، ومعالجة المرء من مرض السكر.
ودعمًا لما سبق؛ فإن دول الغرب تستخدم الصيام الآن في علاج كثير من الأمراض؛ ففي ألمانيا أُقيمت دُور للصحة والعلاج، تتبع في معالجتها للمرضى ـ وحتى الأصحاء على السواء ـ الصوم الذي تفرضه على النزيل لمدّة تزيد على عشر ساعات، وتقل عن العشرين ساعة يوميًّا.. ثم بتناول الوجبات الخفيفة جدًّا، ويُطبَّق هذا النظام لمدة متتابعة لا تقل عن ثلاثة أسابيع، ولا تزيد على أربعة أسابيع؛ أي بما يتمشَّى تمامًا مع نظام الصوم الإسلامي، المتمثل في صيام شهر رمضان كل عام.
وروسيا ـ التي ينتشر فيها الإلحاد ـ قد اعترفت بما للصوم من فوائد صحية للإنسان؛ فقد نُشر في مجلة الأغذية الروسية ما ترجمته حرفيًّا: "وأخيرًا يحقُّ التذكرة بكتاب البروفيسور "نيكولايف ونيلوف": "الجوع من أجل الصحة"، الذي يجزم فيه بأنه لكي يتمتع كل مواطن في المدن الكبرى بالصحة يجب عليه تخليص الجسم من النفايات والمواد السامة بأن يقوم ـ وبصفة دورية ـ بجوعٍ تامٍّ بالامتناع عن الطعام لمدة لا تقل عن ثلاثة أسابيع ولا تزيد على أربعة أسابيع".
ولعل أشهر مصحَّة في العالم هي مصحة الدكتور "هنريج لاهمان" في سكسونيا؛ حيث يقوم العلاج فيها على الصوم، وقد أُنشئت مصحات أخرى على غرارها.
ويقول الدكتور "بيلر شرنبر": "الصوم لشهر واحد في السنة هو أساس الحياة، وأساس الشباب"([6]).
هذا ما شهد به غير المسلمين من العلماء، والفضل ما شهدت به الأعداء!
وبالإضافة إلى كل ما سبق؛ فإن للصيام الإسلامي أثرًا على الناحية النفسية، لا يقل عن أثره على الناحية البدنية؛ إذ يخلق في النفس الصبر، الذي يقيها من القلق والاضطراب، كما يحقق في النفس الشعور بالضمير والإحساس بمراقبة الله سبحانه وتعالى، وهذا يغرس فيها الصدق والأمانة([7]).
ومن أوضح الأدلة على هذا شهادة صائم أمريكي، وهو "توم برنز" ـ من مدرسة كولومبيا للصحافة ـ الذي يقول: إنني أعتبر الصوم تجربة روحية عميقة أكثر منها جسدية؛ فعلى الرغم من أنني بدأت الصوم (الطبي أو التجويع) بهدف تخليص جسدي من الوزن الزائد إلا أنني أدركت أن الصوم نافع جدًّا لتوقُّد الذهن، فهو يساعد على الرؤية بوضوح أكبر، وكذلك على استنباط الأفكار الجديدة وتركيز المشاعر، فلم تَكَد تمضي عدة أيام من صيامي في منتجع (بولنج) الصحي حتى شعرت أني أمرُّ بتجربة سمو روحي هائلة.
إنني عندما أصوم يختفي شوقي تمامًا إلى الطعام، ويشعر جسمي براحة كبيرة، وأشعر بانصراف ذاتي عن النزوات والعواطف السلبية كالحسد والغيرة وحبِّ التسلُّط، كما تنصرف نفسي عن أمور عَلَقَتْ بها، مثل الخوف والارتباك والشعور بالملل، كل هذا لا أجد له أثرًا مع الصيام، ولعل كل ما قلته هو السبب الذي جعل المسلمين ـ وكما رأيتهم في تركيا وسوريا والقدس ـ يحتفلون بصيامهم لمدة شهر في السنة احتفالًا جذَّابًا روحانيًّا لم أجد له مثيلًا في أي مكان آخر في العالم.
وعليه؛ فقد بات مُسَلَّمًا لدى العلماء والخبراء أن للصيام الإسلامي أثره الجلي الواضح على صحة البدن والنفس للفرد والمجتمع المسلم([8]).
ثانيًا. دعواهم لو كان للصيام الإسلامي فوائد صحية فلماذا لم يُشرع طوال العام ـ دعوى باطلة:
إن الحكمة أو الغاية من الصيام تتنافى مع أن يكون طوال العام على الدوام؛ فالصيام أمر تعبُّدي شُرع من أجل تحقيق التقوى؛ قال سبحانه وتعالى:) يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون(183)((البقرة)، وهو لم يُشرع من أجل أن له فوائد صحية، ولكن بالرغم من هذا فقد أشار الله عز وجل في كتابه العزيز إلى فوائد الصيام إجمالًا؛ فقال: ) وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)((البقرة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصيام جُنَّة...»([9]) ([10])، ثم جاء الطب حديثًا ـ كما ذكرنا في الوجه الأول ـ فأثبت من خلال أبحاثه وتجاربه أن للصيام عامة ـ وللصيام الإسلامي خاصة ـ فوائد صحية كثيرة([11]).
وعندما نُسلِّم بأن للصيام فوائد صحية للإنسان فليس معنى ذلك أن يكون طوال العام؛ لأن ذلك يتنافى مع وسطية الإسلام واعتداله، التي تقتضي ألا يكون هناك إفراط ولا تفريط؛ قال أنس بن مالك رضي الله عنه: «جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أُخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأُفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنَّتِي فليس مني»([12]).
ومن ثَمَّ؛ فإن كون الشيء مفيدًا لا يعني المبالغة في استخدامه؛ فالوسطية في كل شيء أمر مطلوب لا محيد عنه، وهو ما قرَّره العلم الحديث من خلال أبحاثه وتجاربه، حتى أصبح من المسلَّمات؛ فالطعام ـ مثلًا ـ ضروري لحفظ صحة الإنسان وحياته، إلا أن الإفراط فيه يضرُّ الجسم ضررًا بالغًا. وكذا؛ فإن ممارسة الرياضة مفيدة جدًّا لجسم الإنسان، ولكن هل معنى ذلك أن يُفْرِطَ الإنسان في ممارستها، ويظلُّ يمارسها ليل نهار؟!... وهكذا.
وبالإضافة إلى ما سبق؛ فإن الإسلام لم يُغلق باب الصيام بعد شهر رمضان، بل فتحه، لكن على سبيل التطوع لا الفرضية، وذلك كالآتي:
o صوم ستة أيام من شوال: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر»([13]).
o صوم يوم عرفة، ويوم عاشوراء: عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «سُئل عن صوم يوم عرفة؟ فقال: يُكَفِّرُ السنة الماضية والباقية، قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: يُكَفِّرُ السنة الماضية»([14]).
o صوم المحرَّم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل»([15]).
o صوم شعبان: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لايفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان»([16]).
o صوم الإثنين والخميس: عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم الإثنين والخميس...»([17]).
o صوم ثلاثة أيام من كل شهر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام»([18]).
o صوم يوم وإفطار يوم: عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يومًا ويفطر يومًا»([19]).
وبهذه الأحاديث ـ وغيرها كثير ـ يتبيَّن أن الصيام مستمر للمتطوِّع قبل رمضان وبعده لا ينقطع، ولكنه موزَّع على أيام وأوقات فاضلة ـ كما ذكرنا ـ وليس على الدوام، وهذا من عظمة الإسلام الذي يتسم بالوسطية والاعتدال، ليس في الصيام فحسب، بل في كل شيء.
وعليه؛ فلا يحق لهؤلاء المدَّعين أن يشككوا في الفوائد الصحية للصيام الإسلامي بدعوى أنه لم يُشرع طوال العام على الدوام، لا سيما وأن هذا الكلام لم يقل به أحد من أهل الاختصاص المعتبرين، لا من المسلمين ولا من غيرهم!
ثالثًا. فوائد الامتناع عن شرب الماء في الصيام الإسلامي:
لقد أخطأ مثيرو الشبهة حينما ادَّعوا أن في الصيام الإسلامي ضررًا، وهو عدم شرب الماء، بدعوى أنه يضر بالصائم ضررًا بالغًا؛ وذلك لما يأتي:
يشكِّل الماء نحو (65-70%) من وزن الجسم للبالغين، وينقسم إلى قسمين رئيسين: قسم داخل الخلايا، وقسم خارجها بين الخلايا؛ في الأنسجة والأوعية الدموية والعصارات الهضمية وغير ذلك، وبين القسمين توازن دقيق، والتغيُّر في تركيزات الأملاح ـ خصوصًا الصوديوم الذي يتركز وجوده في السائل خارج الخلايا ـ ينبِّه أو يثبط عمليتين حيويتين داخل الجسم، وهما: آلية إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول (ADH)، وآلية الإحساس بالعطش، واللتان تؤثِّران كلتاهما في تهيئة الجسم للحفاظ على الماء داخله وقت الشدة، وذلك بتأثير الهرمون المضاد لإدرار البول على زيادة نفاذية الأنابيب الكلوية البعيدة، والأنابيب والقنوات الجامعة؛ حيث يسرِّع امتصاص الماء ويقلِّل من إخراجه، كما يتحكمان معًا في تركيزات الصوديوم خارج الخلايا، وكلما زاد تركيز الصوديوم زاد حفظ الماء داخل الجسم.
إن تناول الماء أثناء الامتناع عن الطعام ـ في الصيام ـ يؤدي إلى تخفيف التناضح (OSMOLARITY) في السائل خارج الخلايا، وهذا بدوره يؤدي إلى تثبيط إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول؛ فيزداد الماء الخارج من الجسم في البول، مع ما يصحبه من الصوديوم وبعض الأملاح الأخرى، وفي هذا تهديد لحياة الإنسان إن لم تُعوَّض هذه الأملاح؛ حيث يُعَدُّ الصوديوم عنصرًا حيويًّا في توطيد الجهد الكهربائي عبر جدر الخلايا العصبية وغير العصبية، كما أن له دورًا حيويًّا في تنبيه العضلات وانقباضها، وعند نقصانه يُصاب الإنسان بضعف عام في جسمه.
وقد وُجدت علاقة بين العطش وتحلل الجليكوجين؛ إذ يسبب العطش إفراز جرعات تتناسب وقوة العطش من (هرموني الأنجوتنسين 2 AngiotensinII) والهرمون القابض للأوعية الدموية (Vasopressin)، واللذان يسبِّبان تحلُّل الجليكوجين في إحدى مراحل تحلُّله بخلايا الكبد، فكلما زاد العطش زاد إفراز هذين الهرمونين بكميات كبيرة؛ الأمر الذي يساعد في إمداد الجسم بالطاقة خصوصًا في نهاية اليوم.
كما أن زيادة الهرمون المضاد لإدرار البول (ADH) المستمر طوال مدة الصيام في شهر رمضان، قد يكون له دور مهم في تحسين القدرة على التعلم وتقوية الذاكرة، وقد ثبت ذلك على حيوانات التجارب؛ لذلك فالقدرة العقلية قد تتحسَّن عند الصائمين بعكس ما يعتقد عامة الناس.
كما أن الحرمان من الماء أثناء الصيام يسبب زيادة كبيرة في آليات تركيز البول في الكلى، مع ارتفاع في القوة الأسموزية البولية قد يصل من (1000 إلى 12 ألف مل أسمو/كجم ماء)، وهكذا تنشط هذه الآليات المهمة لسلامة وظائف الكلى.
كما أن عدم شرب الماء خلال نهار الصيام يقلِّل من حجمه داخل الأوعية الدموية، وهذا بدوره يؤدي إلى تنشيط الآلية المحلية بتنظيم الأوعية وزيادة إنتاج البروستاجلاندين (Prostaglandine)، الذي له تأثيرات عديدة وبجرعات قليلة؛ إذ إن له دورًا في حيوية خلايا الدم الحمراء ونشاطها، وله دور في التحكم في تنظيم قدرة هذه الخلايا لتعبُر من خلال جدران الشعيرات الدموية، وبعض أنواعه له دور في تقليل حموضة المعدة. ومن ثم؛ تثبيط تكوُّن القُرَح المعدية كما ثبت في حيوانات التجارب، كما أن له دورًا في علاج العقم؛ حيث يسبب تحلل الجسم الأصفر. ومن ثم؛ فمن الممكن أن يؤدي دورًا في تنظيم دورة الحمل عند المرأة، كما يؤثر على عدة هرمونات داخل الجسم فينبِّه إفراز هرمون الرينين، وبعض الهرمونات الأخرى، مثل الهرمون الحاث للقشرة الكظرية، كما يزيد من قوى استجابة الغدة النخامية للهرمونات المفرزة من منطقة تحت الوساد في المخ، كما يؤثر على هرمون الجليكوجين، وعلى إطلاق الأحماض الدهنية الحرة، كما يوجد البروستجلاندين في المخ. ومن ثم؛ له تأثير في إفراز الناقلات للإشارات العصبية، كما أن له دورًا في التحكم في إنتاج أحادي فوسفات الأدينوزين الحلقي (CAMP)، التي يزداد مستواها لأسباب عديدة، وتؤدي دورًا مهمًّا في تحلُّل الدهن المختزن؛ لذلك فالعطش أثناء الصيام له فوائد عديدة بطريق مباشر أو غير مباشر نتيجة لزيادة مادة البروستجلاندين؛ حيث يمكن أن يحسِّن كفاءة خلايا الدم ويحمي الجسم من قرحة المعدة، ويشارك في علاج العقم، ويسهِّل الولادة، ويحسِّن الذاكرة، بالإضافة إلى تحسين آليات عمل الكلى، وغير ذلك.
هذا بالإضافة إلى أن الله سبحانه وتعالى جعل للجسم البشري مقدرة على صنع الماء من خلال العمليات والتحوُّلات الكيميائية العديدة، التي تحدث في جميع خلايا الجسم، إذ تتكوَّن ـ أثناء عمليات استقلاب الغذاء، وتكوين الطاقة في الكبد، والكلى، والمخ، والدم، وسائر الخلايا تقريبًا ـ جزيئاتُ ماءٍ، وقد قدَّر العلماء كمية هذا الماء في اليوم من ثلث إلى نصف لتر، ويُسمَّى "الماء الذاتي أو الداخلي" (Intrinsicwater).
وكما خلق الله للإنسان ماءً داخليًّا، خلق له طعامًا داخليًّا أيضًا، فمن نفايات أكسدة الجلوكوز يصنع الجلوكوز مرة أخرى؛ حيث يتحوَّل كل من حمض اللاكتيك والبيروفيت، وهما نتاج أكسدة الجلوكوز إلى جلوكوز مرة أخرى؛ حيث تتوجه هذه النفايات إلى الكبد، فيجعلها وقودًا لتصنيع جلوكوز جديد في الكبد، ويتكوَّن يوميًّا نحو (36) جرامًا من هذا الجلوكوز الجديد من هذين الحمضين، غير الذي يتكون من الجليسرول والأحماض الأمينية.
وبذلك يمكن أن ندرك سِرَّ نهي النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن إكراه مرضاهم على الطعام والشراب؛ حيث كان معتقد الناس ـ وللأسف لا يزال ـ أن الجسم البشري كالآلة الصَّمَّاء، لا تعمل إلا بالإمداد الدائم بالغذاء، وأن في الغذاء الخارجي فقط تكمن مقاومة ضعف المرض، وأخبر أن الله يطعمهم ويسقيهم فقال: «لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله يطعمهم ويسقيهم»([20]) ([21]).
وعليه؛ فهل بعد هذا كله يدَّعون أن الامتناع عن شرب الماء في الصيام الإسلامي يضرُّ الجسم ويسبب له أمراضًا عديدة؟!
رابعًا. دور الصيام الإسلامي في زيادة النشاط والحيوية في الجسم:
إن دعوى مثيري الشبهة أن الصوم يدعو إلى الكسل والخمول، ويقلِّل الإنتاج القومي ـ دعوى لا أساس لها من الصحة؛ وذلك لما يأتي:
لا شك أن الصيام الإسلامي وآدابه، وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيام، لا يؤدي بالصائم إلى ما يزعمون؛ فإن الاقتصار على وجبتي الإفطار والسحور، بغير إسراف يمنح الجسم الصحة والنشاط، فإذا أخذ الجسم كفايته من الطعام والشراب والنوم فلا يحدث له ضعف ولا إعياء.
ولكن شعور الضعف والإعياء الذي يحدث لبعض الصائمين أثناء النهار هو من سوء تصرفهم هم، وبُعدهم عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في آداب الصوم، فهم لا يقتصرون على وجبتي الإفطار والسحور، بل يقضون الليل كله في تناول الحلوى، وأنواع الطعام في إسراف، ولا يأخذون حقهم أيضًا من النوم؛ يسهرون الليل كله في حفلات وزيارات وما شابه ذلك، فلا هم أراحوا بطونهم من الإسراف في تناول الطعام والشراب، ولا هم ذكروا الله حق الذكر في شهر القرآن والعبادة والصوم.
فالإعياء والضعف الذي يصيب بعض الصائمين أثناء النهار ليس بسبب الصيام الصحيح، ولكن بسبب خروجهم عن الآداب الإسلامية في الصوم.
وقد يقال: إن الصوم يقلِّل من الإنتاج القومي أيضًا؛ لأنه يسبب توتر أعصاب الصائم، وهذا ليس صحيحًا؛ فالصوم من الناحية الفسيولوجية لا يؤدي إلى ذلك؛ بل
يؤدي إلى راحة الجسم، وهدوء الأعصاب واسترخائها، وإلى السعادة النفسية والتألق الروحي.
أما الذين يشعرون بالتوتر العصبي أثناء النهار في صيامهم، فهم أولئك الذين يتعاطون المكيِّفات والمفتِّرات، مثل التدخين وغيره، فالصوم يمنع عنهم تعاطيها نهارًا، الأر الذي يؤدي إلى حدوث آثار انسحابية لما في تلك المكيفات من مواد إدمانية، وهذه الآثار الانسحابية تؤدي إلى توتر عصبي؛ لذلك فإن مُدمِن التدخين، ما إن يُؤَذَّن لصلاة المغرب حتى يسرع بالتدخين، ليقلل من تلك الآثار الانسحابية لمادة النيكوتين في جسمه؛ إذًا فسبب الانفعال النفسي والتوتر العصبي لدى بعض الصائمين يعود إلى سوء تصرف الإنسان نفسه، وليس إلى الصوم، كأن يقضي الليل بطوله في السهرات والزيارات والحفلات، ويحرم جسمه من النوم، ويقضي الوقت في تناول أنواع الحلوى، والطعام والشراب، فيصاب بالتخمة، أو يقضي الليل في تناول المكيفات.
ولو اتبع هؤلاء هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصوم لما حدث لهم كل هذا؛ بل لَصحَّت أجسامهم، ولهدأت أعصابهم، ولوجدوا في الصوم خيرًا كثيرًا، كما قال الله سبحانه وتعالى: )وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)((البقرة)([22]).
لقد فهم المسلمون الأوائل أسرار الصيام ومقاصده، واتبعوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم واستمدوا منه روح القوة، وقوة الروح؛ فكان نهارهم نشاطًا وإنتاجًا وإتقانًا، وكان ليلهم تزاورًا وتهجدًا وقرآنًا، وكان شهرهم تعلمًا وتعبدًا وإحسانًا واجتهادًا([23]).
وليس أدلُّ على هذا من الأحداث والمواقع التاريخية التي خاضها المسلمون خلال شهر رمضان.
إن الأحداث التاريخية الفاصلة التي وقعت في شهر رمضان، والانتصارات الرائعة التي حققها المسلمون خلال هذا الشهر الكريم تدل على أن الإسلام يقدر الأمور حقَّ قدرها، وأن شعار الصوم هو القوة والجهاد والعمل، لا الضعف والفتور والكسل؛ فالمسلم يتفاعل مع واقع الحياة، ويتكيَّف مع الظروف، فلا يثنيه واجب ديني عن واجب معيشي أو حياتي، ولا تحدُّ من عزيمته وهمته أهواء الدنيا، ومغريات الطعام والشراب، فلا يصحُّ لقائل أن يقول: إن الصوم يعطِّل الأعمال، ويؤخر المجتمعات، والدليل على ذلك كل هذه الأحداث التاريخية الكبرى التي وقعت في شهر الصوم، ونكتفي هنا بذكر أشهرها:
o معركة بدر الكبرى: وقد حدثت في يوم الجمعة في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة.
o فتح مكة: وهو الفتح الأكبر، وقد حدث في العاشر من رمضان من السنة الثامنة للهجرة.
o موقعة عين جالوت: وقد حدثت يوم الخامس عشر من رمضان سنة 658هـ.
o حرب السادس من أكتوبر عام 1973م: وكانت يوم العاشر من رمضان 1394هـ.
كل هذه الأحداث وغيرها الكثير والكثير قد حدثت في شهر الصيام، وفي هذا أكبر دليل على أن الصوم لم يكن أبدًا عقبة أمام العمل، أو داعيًا للتهاون والكسل في حياة المسلم([24]).
هذا من ناحية الواقع العملي، فأما من ناحية الواقع العلمي؛ فقد "أثبتت الدراسات العلمية بالدليل القاطع أن الصيام الإسلامي ليس له أيُّ تأثير على الأداء العضلي، وتحمُّل المجهود البدني؛ بل بالعكس أظهرت نتائج البحث القيم الذي أجراه الدكتور أحمد
القاضي وزملاؤه بالولايات المتحدة الأمريكية أن درجة تحمل المجهود البدني، وبالتالي كفاءة الأداء العضلي قد ازدادت بنسبة 200% عند 30 % من أفراد التجربة، و7% عند 40% منهم"([25]).
وقد نشرت مجلة الجمعية الملكية للصحة عام 1997م دراسة مقطعية عن النشاط اليومي والأداء الدراسي والصحة أثناء صيام رمضان، أُجريت في قسم التغذية وعلوم الطعام في كلية العلوم الصحية بالكويت؛ لاستكشاف تأثير صيام شهر رمضان على النشاطات اليومية والصحة والأداء الدراسي لعدد من الدارسين الجامعيين بلغ 265 فردًا (163 رجلًا، 210 نساء)، وتراوحت أعمارهم بين (20-72 سنة)، ومعظمهم (97%) يعيشون فرادى بين عائلاتهم.
وأظهر التحليل أن معظم الناس في الدراسة كانوا في أدنى حالات التوتر وفي نشاط روحي جيد، وكانوا يتناولون المشروبات المحتوية على قليل من الكافيين، وكانوا يدخنون قليلًا... وقد سُجِّل لأكثر من 50% من الأشخاص نشاط قليل، ورغبة في الدراسة، ومقدرة على التركيز([26]).
ويؤكد ما سبق الدكتور زغلول النجار مفصِّلًا القول، فيقول: لقد أظهرت نتائج تلك الدراسات أن الأداء البدني للصائم من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب أفضل من أداء غير الصائم؛ لتحسُّن درجة تحمل البدن للمجهودات العضلية، ولأداء كل من القلب وبقية الجهاز الدوري، والجهاز الهضمي، والجهاز التنفسي وغيرها أثناء الصيام.
ومن هنا كانت قلة الشعور بالإجهاد وتحمُّل ما لا يمكن للفرد تحمله في ساعات الإفطار العادية؛ وذلك لاختلاف مصدر الطاقة في الجسم بين الصائم والمفطر، أما إذا زادت مدة الصيام على المتوسط الذي شرعه الإسلام (8 - 16ساعة تقريبًا) فإن الأداء البدني والعضلي يبدأ في التأثر، ويبدأ الصائم في الشعور بالإعياء.
فمن المعروف أن الصوم يسبب انصهار الدهون في الجسم؛ الأمر الذي يؤدي إلى زيادة في الأحماض الدهنية الحرة في الدم، فتصبح هذه الأحماض هي المصدر الرئيس لطاقة الصائم بدلًا من الجلوكوز في حالة المفطر، وهذا يساعد على تقليل استهلاك مادة الجلوكوز في حالة المفطر، كما يساعد على تقليل استهلاك مادة الجليكوجين في كل من العضلات والكبد أثناء بذل الجهد من قِبَل الصائم إذا قام بالمجهود نفسه تحت الظروف نفسها.
بالإضافة إلى ذلك؛ فإن حالة الرضا النفسي للصائم، وارتفاع معنوياته؛ لشعوره بالقرب من خالقه سبحانه وتعالى ولإحساسه بالقيام بعبادة من أشرف العبادات، في شهر يعدُّ أفضل شهور السنة على الإطلاق، وأكثرها بركة ورحمة ومغفرة وعتقًا من النار، كل ذلك يؤدي إلى زيادة واضحة لعدد من الهرمونات النافعة داخل جسم الإنسان، من مثل مجموعة الأندروفين التي يُعزى إليها تحسُّن الأداء البدني، وقلة الشعور بالإعياء أو الإجهاد، فما أحكم من شرع الصيام([27])!
وعليه؛ فهل بعد هذا كله يدَّعون أن الصيام الإسلامي يسبب الكسل والخمول وقلة الإنتاج؟!
خامسًا. يُسْر الصيام الإسلامي وسهولته:
أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن حقيقة علمية في القرآن، وهي أن الصيام الذي فرضه علينا، وحدَّد لنا مدته الزمنية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ـ صيام سهل ويسير، لا مشقة فيه ولا ضرر؛ قال تعالى) :يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ( (البقرة/١٨٥)، قال الفخر الرازي في تفسير الآية: "إن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر؛ فإنه ما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض، ولا على المسافر"([28]).
وتشير الدراسات العلمية المحققة في مجال وظائف أعضاء الجسم ـ أثناء مراحل التجويع ـ إلى يسر الصيام الإسلامي وسهولته؛ فالصيام الإسلامي صيام سهل ميسور للأصحاء المقيمين، لا مشقة فيه على النفس، ولا ضرر يلحق الجسم من جرَّائه، وذلك على وجه القطع واليقين.
وتتمثِّل مظاهر يسر الصيام في الآتي:
- يعدُّ الصيام الإسلامي تمثيلًا غذائيًّا فريدًا؛ إذ يشتمل على مرحلتي البناء والهدم، فبعد وجبتي الإفطار والسحور يبدأ البناء للمركَّبات المهمة في الخلايا، وتجديد المواد المختزنة، التي استُهلكت في إنتاج الطاقة، وبعد مدة امتصاص وجبة السحور يبدأ الهدم، فيتحلَّل المخزون الغذائي من الجليكوجين والدهون، ليمدَّ الجسم بالطاقة اللازمة أثناء الحركة والنشاط في نهار الصيام.
شكل يوضح امتصاص الغذاء وتخزين الجليكوجين من الكبد، ثم إمداد الجسم
بعد ذلك بالطاقة اللازمة في مدة الامتصاص
شكل يبين تغذية الجلوكوز لكل أجهزة الجسم في مدة ما بعد الامتصاص
- يعدُّ الصيام الإسلامي تغييرًا لمواعيد تناول الطعام والشراب، وليس حرمانًا متصلًا من الطعام؛ فلم يفرض الإسلام علينا الانقطاع الكلي لمدد طويلة أو حتى لمدة يوم وليلة؛ وذلك لما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال...»([29]) ([30]).
ومن ثم؛ فإن الصيام الإسلامي تتراوح مدته اليومية من (8 ـ 16) ساعة، وهذه المدة تقع على وجه القطع في المدة التي سمَّاها العلماء مدة ما بعد الامتصاص، والتي تتراوح من (6 ـ 12) ساعة، وقد تمتد إلى 40 ساعة، ويعدُّ العلماء هذه المدة أمانًا كاملًا([31])؛ حيث يتوافر فيها تنشيط جميع آليات الامتصاص والاستقلاب بتوازن، فتنشط آلية تحلل الجليكوجين، وأكسدة الدهون وتحلُّلها، وتحلُّل البروتين، وتكوين الجلوكوز الجديد بدلًا منه، كما أنه لا يحدث للجسم البشري أي خلل في أي وظيفة من وظائفه؛ فلا تتأكسد الدهون بالقدر الذي يولِّد أجسامًا كيتونية تضر، ولا يحدث توازن نيتروجيني سلبي، ويعتمد المخ البشري وخلايا الدم الحمراء والجهاز العصبي على الجلوكوز وحده للحصول منه على الطاقة، وهذا بعكس الصيام الطبي([32]).
رسم بياني يبين المدة الزمنية التي يبقي فيها الجلوكوز هو الغذاء الرئيس للمخ، الذي يتوافر
من تحلُّل الجليكوجين
لذلك كان تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على ضرورة تناول وجبة السحور؛ لإمداد الجسم بوجبة بناء يستمر لمدة 4 ساعات محسوبة من زمن الانقطاع عن الطعام، وبهذا أيضًا يمكن تقليص مدة ما بعد الامتصاص إلى أقل زمن ممكن؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تسحَّروا فإن في السحور بركة»([33]).
كما حَثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على تعجيل الفطر، وتأخير السحور، بتقليص مدة الصيام أيضًا إلى أقل حدٍّ ممكن؛ حتى لا يتجاوز مدة ما بعد الامتصاص بوقت طويل. وبالتالي؛ فإن الصيام الإسلامي لا يسبب شدة، ولا يشكِّل ضعفًا نفسيًّا ضارًّا على الجسم البشري بحال من الأحوال؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر»([34])، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «تسحَّرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: خمسين آية»([35]).
- يوجد مخزون من الطاقة في الجسم البشري يكفي الإنسان حينما يمتنع عن تناول الطعام امتناعًا تامًّا لمدة شهر إلى ثلاثة أشهر، لا يتناول فيها أي طعام قط؛ وبناء على هذه الحقيقة يمكننا أن نؤكد أن ما يتوقف أثناء الصيام هي عمليات الهضم والامتصاص، وليست عملية التغذية؛ فخلايا الجسم تعمل بصورة طبيعية وتحصل على جميع احتياجاتها اللازمة لها من هذا المخزون بعد تحلله، ولكن مع كل هذه الإمكانية الهائلة التي هيَّأها الله سبحانه وتعالي للجسم الإنساني لحفظ حياته عند انقطاعه التام عن تناول الطعام، فقد فرض علينا سبحانه وتعالى صيامًا لا ننقطع فيه عن الطعام إلا مدة زمنية لا تتعدَّى ـ في الغالب ـ نصف اليوم، فكم هي سهل