دعوى نسخ السنة للقرآن في جواز الصيام للمسافر مع القدرة
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن قول الله عز وجل: )فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)( (البقرة) والذي يدل على جواز الصيام واستحبابه في حق المسافرين وغيرهم من ذوي الأعذار مع القدرة عليه - منسوخ بما جاء في السنة النبوية: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم الفتح في اليوم العاشر من رمضان، فصام حتى بلغ الكديد - بين عسفان وأمج - فأفطر بعد صلاة العصر، وشرب على راحلته علانية ليراه الناس، وأمر بالفطر، فبلغه - صلى الله عليه وسلم - أن قوما واصلوا الصيام، فقال: أولئك العصاة». فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإفطار، وحكم على من ظل صائما بالعصيان، فكان هذا منه نسخا لما تقدم من إباحة الصيام في السفر.
وجه إبطال الشبهة:
- إنتأثيمالنبي - صلىاللهعليهوسلم - لـمنبقيعلىصيامه،وأمرهبالفطرللمسافرينمعه - لميكنلمنعجوازالصيامفيالسفر؛وإنماكانلمخالفتهمأمره - صلىاللهعليهوسلم - وهوأعلمبالأصلحلهم،فالحالحالحرب،وقدأجهدهمالمرض،وأضربهمالصيام،وقدقالصلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»، وعلى هذا تم الجمع بين الآية والحديث، ولا مجال للنسخ بينهما.
التفصيل:
إنه من المتقرر عند أهل العلم بالناسخ والمنسوخ أنه متى أمكن الجمع بين الدليلين القطعيين الصحيحين يصار إليه، ولا يحكم بنسخ أحدهما للآخر؛ فالجمع بين الدليلين أولى من إهمال أحدهما.
لقد جاء قول الله عز وجل: )وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)(دلالة واضحة - في نهاية الآية - على استحباب الصوم عن الإفطار، مع الفدية في السفر والمرض غير الشاق، فما دام للإنسان القدرة على الصوم في حالة السفر والمرض دون مشقة أو نصب، فيجوز له الصيام، بل يستحب في حقه.
قال الإمام القرطبي: "قوله عز وجل: )وأن تصوموا خير لكم(؛ أي: والصيام خير لكم، وكذا قرأ أبي؛ أي: من الإفطار مع الفدية... وقيل: "وأن تصوموا" في السفر والمرض غير الشاق... وعلى الجملة، فإنه يقتضي الحض على الصوم؛ أي: فاعملوا ذلك وصوموا"[1].
وقال صاحب "التحرير والتنوير": قوله عز وجل: )وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)(: الظاهر رجوعه لقوله عز وجل: )وعلى الذين يطيقونه فدية( (البقرة: ١٨٤)، فإن كان قوله ذلك نازلا في إباحة الفطر للقادر فقوله -عز وجل-: )وأن تصوموا( (البقرة: ١٨٤) ترغيب في الصوم وتأنيس به، وإن كان نازلا في إباحته لصاحب المشقة كالهرم فكذلك، ويحتمل أن يرجع إلى قوله: )ومن كان مريضا( (البقرة: ١٨٥) وما بعده، فيكون تفضيلا للصوم على الفطر، إلا أن هذا في السفر مختلف فيه بين الأئمة، ومذهب مالك - رحمه الله - أن الصوم أفضل من الفطر، وأما في المرض ففيه تفصيل بحسب شدة المرض[2].
وعلى هذا، فالآية تدل على جواز الصيام في السفر والمرض، ولكن مع اشتراط عدم المشقة والضرر، فإذا وجدت المشقة وتحقق الضرر فالإفطار أولى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»[3]، وقوله: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه»[4]، وما جاء عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته»[5].
هذا ما جاءت به الآية القرآنية، ولم تعارضها السنة النبوية، ولم تنسخ هذا الحكم، أما ما استدل به المتوهمون على أنه ناسخ لهذه الآية فليس كذلك، بل هو مؤكد لمعنى الآية، وموافق لها.
فالحادثة التي ذكروها دليلا على دعواهم نسخ الآية صحيحة، رواها الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما:«أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم[6]، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة»[7].
وقد جاءت بروايات أخرى، وطرق متعددة مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من كتب السنة، فقد روى الإمام البخاري من حديث مجاهد عن طاوس عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة، فصام حتى بلغ عسفان[8]، ثم دعا بماء فرفعه إلى يده؛ ليراه الناس، فأفطر حتى قدم مكة، وذلك في رمضان، فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر»[9].
ورواها من طريق ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة عن ابن عباس - رضي الله عنهما: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة في رمضان فصام، حتى بلغ الكديد[10] أفطر، فأفطر الناس...»[11].
وروى الإمام الترمذي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة عام الفتح، فصام حتى بلغ كراع الغميم، وصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب، والناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه أن ناسا صاموا، فقال: أولئك العصاة»[12].
إن هذه الروايات وغيرها في هذا الشأن لتؤكد معنى الآية وتوافقه دون شبهة تعارض من قريب أو بعيد، ويمكن الجمع بينهما بيسر وسهولة؛ فباجتماع هذه الروايات يتبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أفطر وأمر الناس بالفطر؛ لحصول المشقة والضرر في سفرهم هذا، حتى إن الناس قد اشتكوا هذا له - صلى الله عليه وسلم - وقد أصبح الفطر في حقهم هنا واجبا؛ ولهذا وصف المخالفين بالعصاة، فقد خالفوا الواجب وعصوا الأمر؛ ولذا فالسنة هنا مؤكدة للقرآن وليست ناسخة له، فهذه الحادثة ليس فيها نسخ للآية القرآنية، بل هي موافقة لها.
فقد قال الإمام النووي تعليقا على قوله صلى الله عليه وسلم: «أولئك العصاة»: "هذا محمول على من تضرر بالصوم، أو أنهم أمروا بالفطر أمرا جازما لمصلحة بيان جوازه، فخالفوا الواجب، وعلى التقديرين لا يكون الصائم اليوم في السفر عاصيا إذا لم يتضرر به، ويؤيد التأويل الأول قوله في الرواية الثانية: «إن الناس قد شق عليهم الصيام» [13].
وقال السندي في تعليقه على مسند الشافعي: "هذا الحديث يقوي مذهب الأكثرين القائل بترجيح الصيام في السفر، إلا إذا كان هناك مشقة أو تضرر فيترجح الفطر؛ فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين علم أن الناس قد شق عليهم الصيام شرب أمامهم، وأفطر ليفطروا مثله، وقال لمن لم يتابعه في فطره: «أولئك العصاة»، وإنما سماهم لعدم فطرهم مع تضررهم بالصوم، ولأنهم كانوا ذاهبين إلى فتح مكة ومجاهدة الأعداء، وهذا يضعفهم ويعرضهم للهزيمة... ولا يلزم من نعته إياهم بالعصاة فساد صومهم، وغاية ما هنالك أنه خلاف الأفضل والأولى"[14].
وقد أكد الإمام ابن حجر على أن هذا القول - أي «أولئك العصاة» - لا حجة فيه ولا دليل على النسخ؛ لجواز الصيام في السفر عند القدرة عليه، فقال: ولا حجة في شيء من ذلك؛ لأن مسلما أخرج من حديث أبي سعيد أنه - صلى الله عليه وسلم - صام بعد هذه القصة في السفر ولفظه: «... سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة، فمنا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر، فقال: إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم، فأفطروا، وكانت عزمة فأفطرنا، ثم قال: لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك في السفر»[15]، وهذا الحديث نص في المسألة، ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته - صلى الله عليه وسلم - الصائمين إلى العصيان؛ لأنه عزم عليهم فخالفوا، وهو شاهد لما قلناه من أن الفطر أفضل لمن شق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوي به على لقاء العدو[16].
يتبين لنا من خلال هذه النصوص أن هذه الحادثة التي أفطر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر من معه بالفطر لا تدل على منع الصيام في السفر أو تحريمه، وليس فيها حجة على نسخ الآية الكريمة، وارتفاع حكم الجواز؛ حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بالفطر؛ لتحقق المشقة والضرر، ووجود الحاجة إلى الفطر للتقوي بها على مواجهة الأعداء، فكان الفطر في هذه الحالة أولى، وقد عزم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفطر؛ ولذلك وصف المخالفين عن أمره بالعصيان، والذي يؤكد على جواز الصوم في السفر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام في السفر، وصام أصحابه -رضي الله عنهم- كما ذكر الحديث السابق.
وعلى هذا يسهل الجمع بين الآية والحديث دون أي تكلف أو تأويل؛ فلا نسخ لهذه الآية بالسنة، وتبقى النصوص الشرعية متوافقة متكاملة، ويبقى الحكم الشرعي ثابتا بجواز الصيام في السفر للقادر عليه دون مشقة أو ضرر.
ويحمل على هذا - أيضا - قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس من البر الصوم في السفر»[17]، فقد قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - إثر رؤيته زحاما على رجل يظله الناس من شدة الحر، وقد وقع به المرض في سفره بسبب الصيام، فليس من البر في هذه الحال أن يصوم المسافر مادام الضرر قد تحقق؛ ولذلك فقد بوب الإمام البخاري لهذا الحديث بقوله: "باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لـمن ظلل عليه واشتد الحر: ليس من البر الصوم في السفر".
وقد علق على هذه الترجمة ابن حجر بقوله: "أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر" ما ذكره من المشقة، وأن من روى الحديث مجردا فقد اختصر القصة، وبما أشار إليه من اعتبار شدة المشقة يجمع بين حديث الباب والذي قبله، فالحاصل أن الصوم لمن قوي عليه أفضل من الفطر، والفطر لمن شق عليه الصوم أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم، وأن من لم يتحقق المشقة يخير بين الصوم والفطر"[18].
وعلى هذا، فإن الثابت في الشرع الحكيم أن الصوم في السفر جائز ومستحب مع عدم وجود ضرر أو مشقة، وهذا ما اتفقت عليه الأدلة الشرعية من القرآن والسنة دون اختلاف أو تعارض أو نسخ، وهذا - أيضا - ما اتفق عليه جمهور العلماء وأئمة الفقهاء وأهل الفتوى، فقد نقل الإمام النووي هذا عنهم فقال: "وقال جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى: يجوز صومه في السفر، وينعقد ويجزيه، واختلفوا في أن الصوم أفضل، أم الفطر، أم هما سواء؟ فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي والأكثرون: الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر به فالفطر أفضل، واحتجوا بصوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة وغيرهما، وبغير ذلك من الأحاديث، وأنه يحصل به براءة الذمة في الحال، وقال سعيد بن المسيب والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم: الفطر أفضل مطلقا"[19].
وهذا أيضا ما نقله ابن حجر عن العلماء حيث قال: "وذهب أكثر العلماء، ومنهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق عليه، وقال كثير منهم: الفطر أفضل عملا بالرخصة، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق، وقال آخرون هو مخير مطلقا، وقال آخرون: أفضلهما أيسرهما؛ لقوله -عز وجل-: )يريد الله بكم اليسر( (البقرة: ١٨٥)، فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسر - كمن يسهل عليه حينئذ ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك - فالصوم في حقه أفضل، وهو قول عمر بن عبد العزيز، واختاره ابن المنذر، والذي يترجح قول الجمهور، ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به، وكذلك من ظن به الإعراض عن قبول الرخصة"[20].
وعلى هذا يتبين أن الصوم في السفر جائز عند جميع أهل العلم، وإنما وقع الخلاف حول الأفضل فيهما، هل الصوم أم الإفطار؟ والراجح أن الصوم أفضل ما لم تتحقق المشقة أو الضرر، وهذا ما اتفقت عليه النصوص الشرعية، واتفق عليه الحديث مع الآية دون تعارض، ولا نسخ؛ فالسنة هنا من باب بيان القرآن وتفصيله.
وبهذا فإن دعوى نسخ الحديث لقوله عز وجل: )فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)( - دعوى باطلة واضحة الزيف والبطلان، لا تساندها حجة، ولا يرتفع بها دليل، فلا تعارض بين الآية والحديث؛ فالجمع بينهما سهل ميسور، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أولئك العصاة» لمن امتنع عن الإفطار حينما أمر به كان لمخالفتهم أمره، وتركهم الأولى، ولتحقق المشقة والضرر، ولوجود الحاجة في التقوي لمقابلة الأعداء، وليس هذا رافعا لحكم جواز الصيام في السفر، أو نسخا للآية الكريمة، بل هو من باب الرخصة للمسافر.
والدليل على هذا أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يصومون ويفطرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر، ولم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، فعن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - قالا:«سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـفيصوم الصائم ويفطر المفطر، فلا يعيب بعضهم على بعض»[21].
وجاء عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال:«كنا نسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم ـفلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم»[22].
كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسافر في اليوم الحار ولا يفطر، فهذا دليل أيضا على جواز الصيام في السفر، فعن أبي الدرداء - رضي الله عنه ـقال: «خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم، إلا ما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن رواحة»[23].
فهذه الأحاديث تدل دلالة واضحة على جواز الصيام في السفر عند القدرة عليه دون مشقة أو ضرر، فإذا حدثت المشقة وترجح الضرر يتعين الإفطار، وهذا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر به الناس في الحادثة المذكورة، وليس هذا نسخا منه للجواز، وإنما هو لفعل الأولى، وعلى هذا تتفق النصوص الشرعية دون تعارض ولا نسخ.
فالصواب أن المسافر له ثلاث حالات:
الأولى: ألا يكون لصومه مزية على فطره، ولا لفطره مزية على صومه، ففي هذه الحالة يكون الصوم أفضل له للأدلة الآتية:
- أنهذافعلالرسول - صلىاللهعليهوسلمـكماجاءفيحديثأبيالدرداء - رضياللهعنهـالسابق: «... ومافيناصائمإلاماكانمنالنبي - صلىاللهعليهوسلم - وعبدالله
بن رواحة»، والصوم لا يشق على الرسول - صلى الله عليه وسلم - هنا؛ لأنه لا يفعل إلا الأرفق والأفضل.
- أنهأسرعفيإبراءالذمة؛لأنالقضاءيتأخر.
- أنهأسهلعلىالمكلفغالبا؛لأنالصوممعالناسأسهلمنأنيستأنفالصومبعد،كماهومجربومعروف.
- أنهيدركالزمنالفاضل،وهورمضان،فإنرمضانأفضلمنغيره؛لأنهمحلالوجوب،فلهذهالأدلة يترجح ما ذهب إليه الشافعي - رحمه الله - من أن الصوم أفضل في حق من يكون الصوم والفطر عنده سواء.
الحالة الثانية: أن يكون الفطر أرفق به، فهنا نقول: إن الفطر أفضل، وإذا شق عليه بعض الشيء صار الصوم في حقه مكروها؛ لأن ارتكاب المشقة مع وجود الرخصة يشعر بالعدول عن رخصة الله عز وجل.
الحالة الثالثة: أن يشق عليه مشقة شديدة غير محتملة، فهنا يكون الصوم في حقه حراما؛ والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما شكى إليه الناس أنه قد شق عليهم الصيام، وأنهم ينتظرون ما سيفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم ـدعا بإناء فيه ماء بعد العصر - وهو على بعيره - فأخذه وشربه، والناس ينظرون إليه، ثم قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة، فوصفهم بالعصيان[24].
هذه هي حالات المسافر من خلال صومه وفطره، فالصيام في حقه جائز ما دام قادرا عليه، أما إذا حدثت المشقة الشديدة، فيجب عليه الفطر؛ ولذا كان وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن امتنع عن الإفطار بالعصيان؛ لمخالفتهم هذه الرخصة الشرعية، وتركهم الواجب والأولى، وليس في ذلك نسخ للحكم الشرعي بجواز الصيام في السفر، ولا للآية القرآنية الكريمة.
ومما يؤكد هذا - أيضا - ما جاء عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصيام في السفر؟ فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر»[25].
وأيضا ما جاء عن عروة بن الزبير عن أبي مراوح عن حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه ـأنه قال: «يا رسول الله، أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه»[26].
فهذه الأحاديث وغيرها تعد أدلة واضحة على جواز الصيام في السفر، وأنه من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل الصحابة -رضي الله عنهم- من بعده، وهو الذي قطع به علماء الأمة وفقهاؤها، ولم يذكر أحد منهم أن هذا الحكم قد نسخ.
وبهذا نخلص إلى أنه لا نسخ ولا تعارض بين الآية والحديث؛ فكلاهما يدلان على معنى واحد، ويؤكدان حقيقة واحدة، وهي أن الصيام جائز ومستحب في السفر، ما لم توجد المشقة ويتحقق الضرر، أما إذا كانت هناك مشقة شديدة، فالواجب الإفطار في هذه الحالة، وبهذا تتفق النصوص الشرعية، ويصح الجمع بينها دون تعسف، وتذهب دعوى النسخ أدراج الرياح؛ لأنها لا تقوم على قدم، ولا يقويها دليل، ولا تقوم بها حجة.
الخلاصة:
- إنمنالمتقررعندأهلالعلمأنهمتىأمكنالجمعبينالدليلينالصحيحينيصارإليه،ولايحكمبنسخأحدهماللآخر،والجمعبينقولهعزوجل: )وأنتصومواخيرلكم(،وماجاءعنه - صلىاللهعليهوسلم - أنهأمربالفطرفيسفره،ووصفمنأبقىعلىصيامهبالعصيان - ممكن بل متحقق بسهولة.
- إنالآيةالقرآنيةالسابقةتدلعلىأنالصيامأفضلمنالفطرفيالسفروالمرضغيرالشاق،وعندامتناعالضرر - كماقالالمفسرون - والحديثالشريفيدلأيضاعلىهذاالمعنى؛حيثأمرالنبي - صلىاللهعليهوسلم - بالفطرفيالسفر؛لوجودالمشقة وتحقق الضرر، ووجود الحاجة إليه؛ للقدرة على مواجهة الأعداء.
- إنتأثيمالنبي - صلىاللهعليهوسلم - لمنبقيعلىصيامهكانلإجهادالمرضإياهم،والصياممضرلهمفيهذهالحالة،وقدصحعنالنبي - صلىاللهعليهوسلم - أنهقال: «لاضررولاضرار»،وقدسماهمالنبي - صلى الله عليه وسلم - عصاة؛ لتضررهم بالصوم، أو لأن الأمر بالفطر كان من الرسول - صلى الله عليه وسلم - عزيمة، ولأنهم كانوا ذاهبين إلى فتح مكة ومجاهدة الأعداء، وهذا يضعفهم ويعرضهم للهزيمة.
- إنهذاالحديثيبينالقاعدةالشرعيةفيرفعمالايطاقعنهذهالأمة؛ إذ إن للمريض المقيم ومن أجهده الصوم أن يفطر، فإن خاف على نفسه التلف من الصوم عصى بصومه، وعلى هذا يحمل قوله «أولئك العصاة».
- إننعتالنبي - صلىاللهعليهوسلم - لهمبالعصيانكانلأنهمعملوابالظنمعالقدرةعلىاليقينمنخلالسؤاله - صلىاللهعليهوسلم ـولأنهم خالفوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله، وهو محمول على الزجر والتغليظ؛ لأن الظاهر أن هذا وقع منهم بناء على خطأ في اجتهادهم.
- إنفيالآيةرخصة،وفيالحديثتطبيقلهذهالرخصة،وقولالنبي - صلىاللهعليهوسلم - وفعلهيؤكدهذهالرخصة؛بدليلأن الصحابة -رضي الله عنهم- يصومون ويفطرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر، ولم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم في سفره في الحر الشديد ولا يفطر.
- لقدأخبرالعلماءأنالمسافريكونلهثلاثحالات في صومه:
الأولى: تساوي الصوم والفطر؛ وفي هذه الحالة يكون الصوم أفضل؛ وذلك لأن هذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم ـوهو أسرع في إبراء الذمة، وهو أسهل على المكلف غالبا، مع إدراكه للزمن الفاضل، وهو شهر رمضان.
الثانية: أن يكون الفطر أرفق؛ وهنا نقول: إن الفطر أفضل، وإذا شق عليه الصوم بعض الشيء صار الصوم في حقه مكروها؛ أخذا برخصة الله عز وجل.
الثالثة: أن يشق عليه الصوم مشقة شديدة غير محتملة؛ فهنا يكون في حقه حراما، وهذه الحالة تتوافق مع الحديث؛ إذ شق الصيام على الناس، فانتظروا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم ـفدعا بإناء فيه ماء، فأخذه وشرب منه، والناس ينظرون إليه، ثم قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة».
- وممايؤكدأيضاأنهلانسخبالنسبةلجوازالصيامللمسافرمعالقدرة - قولالنبيصلىاللهعليهوسلم: «هيرخصةمنالله،فمنأخذها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه». وبهذا يتبين أن الحكم باق على حاله، وأن الحديث يؤكد على ما جاء في الآية الكريمة من رخصة الله - عز وجل - فأين هذا النسخ الذي يدعونه؟!
(*) لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1415هـ/ 1995م.
[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (2/ 290).
[2]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (2/ 168) بتصرف.
[3]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الأحكام، باب: من بني في حقه ما يضر بجاره، (2/ 784)، برقم (2340). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (2340).
[4]. صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب: البر والإحسان، باب: ما جاء في الطاعات وثوابها، (2/ 69)، رقم (354). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان.
[5]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، (8/ 135)، رقم (5866). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[6]. كراع الغميم: موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة.
[7]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر... (4/ 1764)، رقم (2569).
[8]. عسفان: قرية بين مكة والمدينة.
[9]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: من أفطر في السفر ليراه الناس، (4/ 220)، رقم (1948).
[10]. الكديد: موضع بالحجاز.
[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: إذا صام أياما من رمضان ثم سافر، (4/ 213)، رقم (1944).
[12]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في كراهية الصوم في السفر، (3/ 324)، رقم (705). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (710).
[13]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 1768).
[14]. مسند الشافعي بترتيب السندي، الشافعي، ص761.
[15]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل، (4/ 1769)، رقم (2583).
[16]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (4/ 217) بتصرف.
[17]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن ظلل عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر"، (4/ 216)، رقم (1946). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية...، (4/ 1764)، رقم (2571).
[18]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (4/ 216).
[19]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 1766، 1767).
[20]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (4/ 216).
[21]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية... (4/ 1766)، رقم (2578).
[22]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: لم يعب أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعضهم بعضا في الصوم والإفطار، (4/ 219)، رقم (1947).
[23]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب رقم (35)، (4/ 215)، رقم (1945). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: التخيير في الصوم والفطر في السفر، (4/ 1771)، رقم (2589).
[24]. الشرح الممتع على زاد المستقنع، محمد بن صالح العثيمين، (6/ 219، 220).
[25]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: الصوم في السفر والإفطار، (4/ 211)، رقم (1943). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: التغيير في الصوم والفطر في السفر، (4/ 1770)، رقم (2584).
[26]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: التخيير في الصوم والفطر في السفر، (4/ 1770)، رقم (2588).مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن قول الله عز وجل: )فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)( (البقرة) والذي يدل على جواز الصيام واستحبابه في حق المسافرين وغيرهم من ذوي الأعذار مع القدرة عليه - منسوخ بما جاء في السنة النبوية: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم الفتح في اليوم العاشر من رمضان، فصام حتى بلغ الكديد - بين عسفان وأمج - فأفطر بعد صلاة العصر، وشرب على راحلته علانية ليراه الناس، وأمر بالفطر، فبلغه - صلى الله عليه وسلم - أن قوما واصلوا الصيام، فقال: أولئك العصاة». فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإفطار، وحكم على من ظل صائما بالعصيان، فكان هذا منه نسخا لما تقدم من إباحة الصيام في السفر.
وجه إبطال الشبهة:
- إنتأثيمالنبي - صلىاللهعليهوسلم - لـمنبقيعلىصيامه،وأمرهبالفطرللمسافرينمعه - لميكنلمنعجوازالصيامفيالسفر؛وإنماكانلمخالفتهمأمره - صلىاللهعليهوسلم - وهوأعلمبالأصلحلهم،فالحالحالحرب،وقدأجهدهمالمرض،وأضربهمالصيام،وقدقالصلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»، وعلى هذا تم الجمع بين الآية والحديث، ولا مجال للنسخ بينهما.
التفصيل:
إنه من المتقرر عند أهل العلم بالناسخ والمنسوخ أنه متى أمكن الجمع بين الدليلين القطعيين الصحيحين يصار إليه، ولا يحكم بنسخ أحدهما للآخر؛ فالجمع بين الدليلين أولى من إهمال أحدهما.
لقد جاء قول الله عز وجل: )وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)(دلالة واضحة - في نهاية الآية - على استحباب الصوم عن الإفطار، مع الفدية في السفر والمرض غير الشاق، فما دام للإنسان القدرة على الصوم في حالة السفر والمرض دون مشقة أو نصب، فيجوز له الصيام، بل يستحب في حقه.
قال الإمام القرطبي: "قوله عز وجل: )وأن تصوموا خير لكم(؛ أي: والصيام خير لكم، وكذا قرأ أبي؛ أي: من الإفطار مع الفدية... وقيل: "وأن تصوموا" في السفر والمرض غير الشاق... وعلى الجملة، فإنه يقتضي الحض على الصوم؛ أي: فاعملوا ذلك وصوموا"[1].
وقال صاحب "التحرير والتنوير": قوله عز وجل: )وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)(: الظاهر رجوعه لقوله عز وجل: )وعلى الذين يطيقونه فدية( (البقرة: ١٨٤)، فإن كان قوله ذلك نازلا في إباحة الفطر للقادر فقوله -عز وجل-: )وأن تصوموا( (البقرة: ١٨٤) ترغيب في الصوم وتأنيس به، وإن كان نازلا في إباحته لصاحب المشقة كالهرم فكذلك، ويحتمل أن يرجع إلى قوله: )ومن كان مريضا( (البقرة: ١٨٥) وما بعده، فيكون تفضيلا للصوم على الفطر، إلا أن هذا في السفر مختلف فيه بين الأئمة، ومذهب مالك - رحمه الله - أن الصوم أفضل من الفطر، وأما في المرض ففيه تفصيل بحسب شدة المرض[2].
وعلى هذا، فالآية تدل على جواز الصيام في السفر والمرض، ولكن مع اشتراط عدم المشقة والضرر، فإذا وجدت المشقة وتحقق الضرر فالإفطار أولى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»[3]، وقوله: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه»[4]، وما جاء عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته»[5].
هذا ما جاءت به الآية القرآنية، ولم تعارضها السنة النبوية، ولم تنسخ هذا الحكم، أما ما استدل به المتوهمون على أنه ناسخ لهذه الآية فليس كذلك، بل هو مؤكد لمعنى الآية، وموافق لها.
فالحادثة التي ذكروها دليلا على دعواهم نسخ الآية صحيحة، رواها الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما:«أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم[6]، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة»[7].
وقد جاءت بروايات أخرى، وطرق متعددة مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من كتب السنة، فقد روى الإمام البخاري من حديث مجاهد عن طاوس عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة، فصام حتى بلغ عسفان[8]، ثم دعا بماء فرفعه إلى يده؛ ليراه الناس، فأفطر حتى قدم مكة، وذلك في رمضان، فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر»[9].
ورواها من طريق ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة عن ابن عباس - رضي الله عنهما: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة في رمضان فصام، حتى بلغ الكديد[10] أفطر، فأفطر الناس...»[11].
وروى الإمام الترمذي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة عام الفتح، فصام حتى بلغ كراع الغميم، وصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب، والناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه أن ناسا صاموا، فقال: أولئك العصاة»[12].
إن هذه الروايات وغيرها في هذا الشأن لتؤكد معنى الآية وتوافقه دون شبهة تعارض من قريب أو بعيد، ويمكن الجمع بينهما بيسر وسهولة؛ فباجتماع هذه الروايات يتبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أفطر وأمر الناس بالفطر؛ لحصول المشقة والضرر في سفرهم هذا، حتى إن الناس قد اشتكوا هذا له - صلى الله عليه وسلم - وقد أصبح الفطر في حقهم هنا واجبا؛ ولهذا وصف المخالفين بالعصاة، فقد خالفوا الواجب وعصوا الأمر؛ ولذا فالسنة هنا مؤكدة للقرآن وليست ناسخة له، فهذه الحادثة ليس فيها نسخ للآية القرآنية، بل هي موافقة لها.
فقد قال الإمام النووي تعليقا على قوله صلى الله عليه وسلم: «أولئك العصاة»: "هذا محمول على من تضرر بالصوم، أو أنهم أمروا بالفطر أمرا جازما لمصلحة بيان جوازه، فخالفوا الواجب، وعلى التقديرين لا يكون الصائم اليوم في السفر عاصيا إذا لم يتضرر به، ويؤيد التأويل الأول قوله في الرواية الثانية: «إن الناس قد شق عليهم الصيام» [13].
وقال السندي في تعليقه على مسند الشافعي: "هذا الحديث يقوي مذهب الأكثرين القائل بترجيح الصيام في السفر، إلا إذا كان هناك مشقة أو تضرر فيترجح الفطر؛ فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين علم أن الناس قد شق عليهم الصيام شرب أمامهم، وأفطر ليفطروا مثله، وقال لمن لم يتابعه في فطره: «أولئك العصاة»، وإنما سماهم لعدم فطرهم مع تضررهم بالصوم، ولأنهم كانوا ذاهبين إلى فتح مكة ومجاهدة الأعداء، وهذا يضعفهم ويعرضهم للهزيمة... ولا يلزم من نعته إياهم بالعصاة فساد صومهم، وغاية ما هنالك أنه خلاف الأفضل والأولى"[14].
وقد أكد الإمام ابن حجر على أن هذا القول - أي «أولئك العصاة» - لا حجة فيه ولا دليل على النسخ؛ لجواز الصيام في السفر عند القدرة عليه، فقال: ولا حجة في شيء من ذلك؛ لأن مسلما أخرج من حديث أبي سعيد أنه - صلى الله عليه وسلم - صام بعد هذه القصة في السفر ولفظه: «... سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة، فمنا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر، فقال: إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم، فأفطروا، وكانت عزمة فأفطرنا، ثم قال: لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك في السفر»[15]، وهذا الحديث نص في المسألة، ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته - صلى الله عليه وسلم - الصائمين إلى العصيان؛ لأنه عزم عليهم فخالفوا، وهو شاهد لما قلناه من أن الفطر أفضل لمن شق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوي به على لقاء العدو[16].
يتبين لنا من خلال هذه النصوص أن هذه الحادثة التي أفطر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر من معه بالفطر لا تدل على منع الصيام في السفر أو تحريمه، وليس فيها حجة على نسخ الآية الكريمة، وارتفاع حكم الجواز؛ حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بالفطر؛ لتحقق المشقة والضرر، ووجود الحاجة إلى الفطر للتقوي بها على مواجهة الأعداء، فكان الفطر في هذه الحالة أولى، وقد عزم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفطر؛ ولذلك وصف المخالفين عن أمره بالعصيان، والذي يؤكد على جواز الصوم في السفر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام في السفر، وصام أصحابه -رضي الله عنهم- كما ذكر الحديث السابق.
وعلى هذا يسهل الجمع بين الآية والحديث دون أي تكلف أو تأويل؛ فلا نسخ لهذه الآية بالسنة، وتبقى النصوص الشرعية متوافقة متكاملة، ويبقى الحكم الشرعي ثابتا بجواز الصيام في السفر للقادر عليه دون مشقة أو ضرر.
ويحمل على هذا - أيضا - قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس من البر الصوم في السفر»[17]، فقد قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - إثر رؤيته زحاما على رجل يظله الناس من شدة الحر، وقد وقع به المرض في سفره بسبب الصيام، فليس من البر في هذه الحال أن يصوم المسافر مادام الضرر قد تحقق؛ ولذلك فقد بوب الإمام البخاري لهذا الحديث بقوله: "باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لـمن ظلل عليه واشتد الحر: ليس من البر الصوم في السفر".
وقد علق على هذه الترجمة ابن حجر بقوله: "أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر" ما ذكره من المشقة، وأن من روى الحديث مجردا فقد اختصر القصة، وبما أشار إليه من اعتبار شدة المشقة يجمع بين حديث الباب والذي قبله، فالحاصل أن الصوم لمن قوي عليه أفضل من الفطر، والفطر لمن شق عليه الصوم أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم، وأن من لم يتحقق المشقة يخير بين الصوم والفطر"[18].
وعلى هذا، فإن الثابت في الشرع الحكيم أن الصوم في السفر جائز ومستحب مع عدم وجود ضرر أو مشقة، وهذا ما اتفقت عليه الأدلة الشرعية من القرآن والسنة دون اختلاف أو تعارض أو نسخ، وهذا - أيضا - ما اتفق عليه جمهور العلماء وأئمة الفقهاء وأهل الفتوى، فقد نقل الإمام النووي هذا عنهم فقال: "وقال جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى: يجوز صومه في السفر، وينعقد ويجزيه، واختلفوا في أن الصوم أفضل، أم الفطر، أم هما سواء؟ فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي والأكثرون: الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر به فالفطر أفضل، واحتجوا بصوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة وغيرهما، وبغير ذلك من الأحاديث، وأنه يحصل به براءة الذمة في الحال، وقال سعيد بن المسيب والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم: الفطر أفضل مطلقا"[19].
وهذا أيضا ما نقله ابن حجر عن العلماء حيث قال: "وذهب أكثر العلماء، ومنهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق عليه، وقال كثير منهم: الفطر أفضل عملا بالرخصة، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق، وقال آخرون هو مخير مطلقا، وقال آخرون: أفضلهما أيسرهما؛ لقوله -عز وجل-: )يريد الله بكم اليسر( (البقرة: ١٨٥)، فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسر - كمن يسهل عليه حينئذ ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك - فالصوم في حقه أفضل، وهو قول عمر بن عبد العزيز، واختاره ابن المنذر، والذي يترجح قول الجمهور، ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به، وكذلك من ظن به الإعراض عن قبول الرخصة"[20].
وعلى هذا يتبين أن الصوم في السفر جائز عند جميع أهل العلم، وإنما وقع الخلاف حول الأفضل فيهما، هل الصوم أم الإفطار؟ والراجح أن الصوم أفضل ما لم تتحقق المشقة أو الضرر، وهذا ما اتفقت عليه النصوص الشرعية، واتفق عليه الحديث مع الآية دون تعارض، ولا نسخ؛ فالسنة هنا من باب بيان القرآن وتفصيله.
وبهذا فإن دعوى نسخ الحديث لقوله عز وجل: )فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)( - دعوى باطلة واضحة الزيف والبطلان، لا تساندها حجة، ولا يرتفع بها دليل، فلا تعارض بين الآية والحديث؛ فالجمع بينهما سهل ميسور، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أولئك العصاة» لمن امتنع عن الإفطار حينما أمر به كان لمخالفتهم أمره، وتركهم الأولى، ولتحقق المشقة والضرر، ولوجود الحاجة في التقوي لمقابلة الأعداء، وليس هذا رافعا لحكم جواز الصيام في السفر، أو نسخا للآية الكريمة، بل هو من باب الرخصة للمسافر.
والدليل على هذا أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يصومون ويفطرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر، ولم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، فعن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - قالا:«سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـفيصوم الصائم ويفطر المفطر، فلا يعيب بعضهم على بعض»[21].
وجاء عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال:«كنا نسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم ـفلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم»[22].
كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسافر في اليوم الحار ولا يفطر، فهذا دليل أيضا على جواز الصيام في السفر، فعن أبي الدرداء - رضي الله عنه ـقال: «خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم، إلا ما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن رواحة»[23].
فهذه الأحاديث تدل دلالة واضحة على جواز الصيام في السفر عند القدرة عليه دون مشقة أو ضرر، فإذا حدثت المشقة وترجح الضرر يتعين الإفطار، وهذا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر به الناس في الحادثة المذكورة، وليس هذا نسخا منه للجواز، وإنما هو لفعل الأولى، وعلى هذا تتفق النصوص الشرعية دون تعارض ولا نسخ.
فالصواب أن المسافر له ثلاث حالات:
الأولى: ألا يكون لصومه مزية على فطره، ولا لفطره مزية على صومه، ففي هذه الحالة يكون الصوم أفضل له للأدلة الآتية:
- أنهذافعلالرسول - صلىاللهعليهوسلمـكماجاءفيحديثأبيالدرداء - رضياللهعنهـالسابق: «... ومافيناصائمإلاماكانمنالنبي - صلىاللهعليهوسلم - وعبدالله
بن رواحة»، والصوم لا يشق على الرسول - صلى الله عليه وسلم - هنا؛ لأنه لا يفعل إلا الأرفق والأفضل.
- أنهأسرعفيإبراءالذمة؛لأنالقضاءيتأخر.
- أنهأسهلعلىالمكلفغالبا؛لأنالصوممعالناسأسهلمنأنيستأنفالصومبعد،كماهومجربومعروف.
- أنهيدركالزمنالفاضل،وهورمضان،فإنرمضانأفضلمنغيره؛لأنهمحلالوجوب،فلهذهالأدلة يترجح ما ذهب إليه الشافعي - رحمه الله - من أن الصوم أفضل في حق من يكون الصوم والفطر عنده سواء.
الحالة الثانية: أن يكون الفطر أرفق به، فهنا نقول: إن الفطر أفضل، وإذا شق عليه بعض الشيء صار الصوم في حقه مكروها؛ لأن ارتكاب المشقة مع وجود الرخصة يشعر بالعدول عن رخصة الله عز وجل.
الحالة الثالثة: أن يشق عليه مشقة شديدة غير محتملة، فهنا يكون الصوم في حقه حراما؛ والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما شكى إليه الناس أنه قد شق عليهم الصيام، وأنهم ينتظرون ما سيفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم ـدعا بإناء فيه ماء بعد العصر - وهو على بعيره - فأخذه وشربه، والناس ينظرون إليه، ثم قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة، فوصفهم بالعصيان[24].
هذه هي حالات المسافر من خلال صومه وفطره، فالصيام في حقه جائز ما دام قادرا عليه، أما إذا حدثت المشقة الشديدة، فيجب عليه الفطر؛ ولذا كان وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لم