في وداع رمضان

29/03/2022
تحميل المقال
في وداع رمضان

قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه» (رواه البخاري:38، ومسلم:760)، وقال: «ومن قام رمضان إيماناً واحتسباً غُفر له ما تقدم من ذنبه» (رواه البخاري:(38)، ومسلم:760)، وقال: «ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه» (رواه البخاري:35، ومسلم:760). 

أما غفران الذنوب لمن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، فيكون لمن قامها شعر بها أو لم يشعر، ولا يتأخر تكفير الذنوب بها إلى انقضاء الشهر، وأما غفران الذنوب لمن صام رمضان إيماناً واحتساباً، ولمن قام رمضان إيماناً واحتساباً، فيحتاج إلى تمام الشهر مع العمل. وقد ورد في حديث رواه الإمام أحمد رحمه الله عن أبي هريرة في فضائل رمضان، وفيه: «ويُغفر لهم في آخر ليلة فيه»، فقيل له: "يا رسول الله! أهي ليلة القدر؟"، قال: «لا، ولكن العامل إنّما يوفى أجره إذا قضى عملَه» (رواه الإمام أحمد:2/292)، فمن وفَّى ما عليه من العمل كاملاً وُفّي له الأجر كاملاً، ومن سلّم ما عليه موفراً تسلم ماله نقداً مؤجلاً. 

ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكمُ *** ولا أسلّمها إلا يداً بيدٍ فإن وفيتم بما قلتم وفيتُ لكم 

وإن أبيتم يكون الرهن تحت يَدي   

أما من نقص في العمل، فإنه ينقص له من الأجر بقدر نقصه، بالأمس القريب استقبلناه، واليوم نودع شهر القرآن والعتق من النيران، بأي شيء نودّعك يا شهر الصيام؟   

دهاك الفراقُ فما تصنعُ *** أتصبرُ للبَين أم تجزعُ إذا كنت تبكي وهم حيرةٌ 

فكيف تكون إذا ودّعُوا ولكننا نودعك بأزكى تحية وسلام: سلام من الرحمن كل أوان *** على خير شهر قد مضى وزمان سلام على شهر الصيام فإنه 

أمانٌ من الرحمن أيّ أمانِ لئن فنيتْ أيامكُ الغرُّ بغتةً فما *** الحزنُ من قلبي عليك بفانِ   

أما من لم يستيقظ قلبه إلى حرّ الوداع، وقد كان قبل ذلك في سعة من طول الوصال، وقد فرط، فنقول له:   

أتترك من تحبُّ وأنت جارُ *** وتطلبهم إذا بَعُدَ المزارُ وتبكي بعد نأيهمُ اشتياقاً وتسأل

في المنازل أين ساروا تركتَ سؤالهم وهُمُ حضورٌ **** وترجو أن يخيّرك الديارُ   

ولكنا لا نقول: مت كمداً، وإنّما نقول: تدارك أيامك، فأنت تتعامل من رب رحيم، عفوّ غفور، يحب توبة التائبين ويجزل الأجر للعاملين، «وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» [1]. 

ويا من عزم على التوبة في هذا الشهر الكريم: اعلم أنك في ابتلاء وامتحان، وإن من شيم الرجال أنهم إذا عاهدوا وواعدوا وفوا بعهدهم، وهذا مع بعض الناس لبعض، فكيف إذا كان عهدك مع مولاك وخالقك ورازقك؟ فيا من أعتقه مولاه من النار، إياك أن تعود بعد أن صرتَ حراً إلى رق الأوزار، أيبعدك مولاك من النار وأنت تتقرب منها، وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها، ولا تحيد عنها؟ وإنّ امرءاً ينجو من النار بعد ما تزوّد من أعمالها لسعيد ويا من ترجو العتق من النار، وقد سألت ربك في شهر رمضان! اعلم أنه لا بدَّ أن تأتي بأسباب توجب العتق، فخذ بهذه الأسباب، وهي الحمد لله ميسرة سهلة، ومن أعظمها، دوام الطاعة والاستمرار عليها. فحذار حذار، من النكوص، فتلك والله من خصال المنافقين؛ لأن قلوبهم -بسبب ما ران عليها- أضعف من أن تحتمل وطأة المداومة وشدة مجاهدة النفس، وهي أيضاً أبعدُ من أن تتلذذ بحلاوة الإيمان والطاعة والانتصار على هوى النفس وشيطانها، وأنصحك بأمرين: الأمر الأول: أن تكون لك عزيمة صادقة قويَّة -من عزائم الرجال- على ا لطاعة والمداومة عليها، مهما كانت الظروف والأحوال. الأمر الثاني: القصد في الأعمال، وعدم الإثقال الشديد على النفس، فإن ذلك أدعى إلى المداومة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ» [2]، وتأمل قوله: «أحب الأعمال إلى الله»، ويأتي بعد ذلك التدرج بالأعمال. اهتمام السلف بقبول العمل: وينشأ هذا من أمرين: أحدهما: الإخلاص لله في العمل، قبل فعله وأثناء فعله. الثاني: بُعد النفس عن العجب بعملها، ولو كان كثيراً. 

والسلف رحمهم الله كانوا يهتمون بإتمام العمل وكماله، ثم يهتمون بقبوله ويخافون ردّه. عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، قالت: "هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا! ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون وتصدقون، ويخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات» [3]. 

وقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. قال علي رضي الله عنه: "كونوا لقبول العمل أشدَّ اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}"، وقال فضالة بن عبيد الأوسي الأنصاري -من أهل بيعة الرضوان-: "لأن أكون أعلم أن الله تقبل مني مثقال حبة من خردل أحبُّ إلى من الدنيا وما فيها، لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}". وقال مالك بن دينار: "الخوف على العمل أن لا يتقبل أشدُّ من العمل". 

وقال عبد العزيز بن أبي روّاد: "أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمَّ أيقبل منهم أم لا؟"، وكان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر، فيُقال له: "إنه يوم فرح وسرور"، فيقول: "صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملاً، فلا أدري أيقبله مني أم لا؟". 

لعلك غضبان وقلبي غافلُ *** سلام على الدارين إن كنت راضياً وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينادي في آخر ليلة من رمضان: "يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزّيه"، وكان يقول ذلك ابن مسعود رضي الله عنه. 

تنبيهات سريعة في ختام هذا الشهر الكريم: زكاة الفطر: وهي واجبة على الجميع، وأحكامها معروفة، لكن أنبه إلى مسألة، ألا وهي: أن جمهور أهل العلم على أن إخراج قيمة زكاة الفطر لا يجزئ، بل لا بدَّ من إخراج الطعام من غالب قوت البلد. سنة التكبير المهجورة في ليلة العيد وصباحه إلى صلاة العيد. صيام ستة أيام من شوال، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الحديث: «من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر» [4].

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

[1] رواه البخاري (7405)، وفي مواضع من الصحيح، ومسلم (2675). 

[2] رواه البخاري (43، 6462، 6465)، ومسلم (782)، وأبو داود (1368)، وأحمد (6/ 40، 61، 125، 165) كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها. 

[3] رواه الترمذي (3175، وابن ماجه (4198)، من حديث عبد الرحمن بن سعيد ابن وهب الهمداني عن عائشة رضي الله عنها ولم يدرك عبد الرحمن عائشة رضي الله عنها كما في التهذيب (6-169). 

[4] رواه مسلم، (1164)، وأبو داود (2433)، والترمذي (759)، وابن ماجه (1716) من حديث ثوبان رضي الله عنه.