بوابة الغفران في شهر رمضان

29/03/2022
تحميل المقال
بوابة الغفران في شهر رمضان

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على المصطفى، وبعد:
فإنه ما تنافس المتنافسون ولا تسابق المتسابقون إلى شيء كسباقهم إلى رضا الرحمن، والفوز بالغفران، لاسيما في مثل هذا الشهر العظيم "رمضان"، ولذا فقد جاءت الأحاديث النبوية بالدعوة لاستغلال هذه الفرصة الذهبية وركزت الأدلة على ذكر معنيين من المعاني العظام، شرطاً لحصول مغفرة ذي الجلال والإكرام، وهما الإيمان والاحتساب، كما في قوله _صلى الله عليه وسلم_: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه.
قال ابن عبد البر: "في قوله (إيماناً واحتساباً) دليل على أن الأعمال الصالحة إنما يقع بها غفران الذنوب وتكفير السيئات مع صدق النيات".


وقد بين ابن القيم حكمة الربط بين هذين المعنيين وغفران ما تقدم من الذنوب فقال في زاد المهاجر إلى ربه: "فإن كل عمل لا بد له من مبدأ وغاية فلا يكون العمل طاعة وقربة حتى يكون مصدره عن الإيمان فيكون الباعث عليه هو الإيمان المحض لا العادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك بل لا بد أن يكون مبدؤه محض الإيمان وغايته ثواب الله وابتغاء مرضاته وهو الاحتساب ولهذا كثيراً ما يقرن بين هذين الأصلين في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً" و"ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً" ونظائره.
فحري بالمؤمن أن يستحضر هذا المعنى العظيم عند صيامه وقيامه وسائر عباداته، لما له من أثر كبير على قبول الطاعة ومضاعفة أجره، وبركة أثرها، فلا يستوي اثنان؛ أحدهما يصوم - يوم يصوم - وهو يتذكر منزلة الصيام وفضله، فلا يغيب عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعفن قال الله تعالى: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي"(1)، ففي هذا الحديث بشرى عظيمة للنفوس المتعلقة بفضل الله ورضاه بأن الصوم فريضة اختصها الله لنفسه فليس يعلم أجرها ولا يقدر قدرها إلا الله، الذي فرضها واختصها دون سائر الأعمال، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (الزمر: من الآية10).


إن الذي يتمثل هذا المعنى العظيم ثم يثني بحديث المغفرة "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" إنه عندئذ يفرح برمضان، ويلتذ بالصيام ويستكثر منه، وهذا الصائم إيماناً واحتساباً لا يستوي مع الفاقد لهذا المعنى الذي لا يذكر صومه إلا إذا جاع أو أفطر، فتراه يتململ من صيامه ويتمنى رحيل الشهر بفارغ الصبر، فما أعظم الفرق بين الأول والثاني وما ذاك إلا للاحتساب وهكذا من استحضر فضل القيام في رمضان وأنه من قام مع إمامه حتى ينصرف بلغ غفران ما تقدم من الذنوب والآثام، فهل ترى من تمثل ذلك ينصرف عن القيام ويزهد في تلك الأجور العظام.


إن الإيمان بفضل القيام وأثره وأجره والسعي لذلك من أعظم أسباب القبول والتوفيق لأداء تلك الشعائر على الوجه الأكمل.
كما أن تطبيق مفهوم الإيمان والاحتساب في قراءة القرآن له أثره البالغ، فكيف يكون حال القارئ إذا استشعر أنه يقرأ كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهو كما قال: "قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ" (يونس: من الآية57)، ثم هو يسعى أيضاً مع إصلاح قلبه بالقرآن إلى تحصيل الأجور العظام كما أخبر عليه الصلاة والسلام "من قرأ القرآن فله بكل حرف حسنة، الحسنة بعشر أمثالها"(2).


ففي سورة الفاتحة (150) حرفاً فيرجى لمن قرأها محتسباً (1500) حسنة، وفي الصفحة الواحدة من كتاب الله ما لا يقل عن (500) حرف فتلك أكثر من (5000) حسنة، فلا شك أن حال المستحضر لمنزلة الكتاب الكريم، وهذا الأجر العظيم ليس كمن يقرأ القرآن هذاً كهذ الشعر وهمه آخر السورة، وشتان بين الاثنين في الفعل والأجر.
فهل نغتنم ما بقي من الشهر بترسيخ مفهوم الإيمان والاحتساب في قلوبنا وأهلنا ومجتمعنا، لاسيما ونحن نعيش أفضل أيام العام العشر الأواخر من رمضان فاحتسب صيامك وقيامك وقراءتك وسائر طاعاتك، وابتغ بها وجه الله واسْعَ بها إلى فضله ورضاه.


بل لنوسع مفهوم الاحتساب ليشمل العادات حتى تكون عبادات وننال بها الأجور والحسنات كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة"، ولما سأل معاذ بن جبل أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما عن صفة قيامه لليل قال أبو موسى: (أتفوَّقه تفوقاً) أي يقوم فإذا غلبه النوم نام ثم يقوم وهكذا سائر الليل، وفي ذلك مشقة كبيرة، قال معاذ: (أما أنا فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي)، قال أهل العلم: ففضل معاذ على أبي موسى في ذلك.
وفقنا الله لهداه وجعل عملنا في رضاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


_______________ 

(1) رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وعند البخاري بلفظ (الصوم لي). 

(2) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.